انقطاعات الباث

 

انقطاعات الباث

ونحن نحتضر في الأيام الأخيرة من الباث، تذكرت رواية ساراماغو البديعة انقطاعات الموت، حينما استعار الموت من الفانتازيا ليجيب عن تساؤلين: كيف ستكون الحياة لو انقطع الموت عنا؟ وهل سيكون من الأفضل لو عرفنا متى سنموت؟

الجزء الثاني هو ما استعادته ذاكرتي عند إعلان الباث إغلاقه بعد شهر، ليقضي بوفاتنا جميعًا في هذا العالم. لكن الحالتين ليستا متشابهتين تمامًا، ففي انقطاعات الموت، لم يكن الموت مقضيًا على الجميع في الوقت نفسه كما هو الحال في موت الباث. الموت في الباث أشبه بالقيامة، حيث تنقطع الحياة عن كل الموجودات دفعة واحدة، لا أحد يبقى، كل العالم سيفنى كما لو لم يكن، في حين كان الموت يتخطف الأفراد في عالم ساراماغو.

تساءلت وأنا أقارن بين الصورتين: هل كان الحزن الذي ينتاب الإنسان في عالم ساراماغو حينما يعلم بوفاته قبلها، لأنه سيغادر الوجود، أم لأنه وحده من سيغادر الوجود؟ لربما كانت فكرة القيامة أو فكرة الموت الباثي حيث يرحل الجميع معه إلى منفى العدم أهون عليه من أن يُنفى وحده عن عالمه في حين يستمر الآخرون فيه.

في اعتقادي أن ما يحدد هوية الوجود عندنا هو بقاء الآخرين لا بقاؤنا. وقد لا يستسيغ الإنسان فكرة الوجود في ظل رحيل الآخرين كما لا يستسيغ فكرة الرحيل في ظل بقائهم. الموت هو انفصالنا عن الآخرين. وقد يبلغ بالإنسان بعد رحيل الذين كانوا يشكلون العالم والوجود بالنسبة له حدًا يشعر معه أنه الميت وأن الذين رحلوا عنه ينعمون بالحياة في عالمهم الآخر، فيتمنى الرحيل معهم إلى عالمهم.

 

رسالة العشاء الأخير

رسالة العشاء الأخير

في البدء كانت الرسالة، كانت التذكرة والهجرة إلى الوطن، كان عرق الكتاب الذي يجمعنا. وكان اللقاء الأول، أقلب نظري بين الوجوه التي لم أكن أعرفها، بدأت أحفظ أسماء بعض وأنسى آخرين.

لقد كانت اليوتوبيا مدينة طوباوية نائمة في العدم فأيقظناها وأخرجناها إلى الوجود. مدينة يحكمها العارفون، ويسكنها العارفون.

من يبعث يوشع بن نون فيوقف لنا الشمس واللحظة؟!

لقد أدركت في هذا الملتقى أننا لا نحتاج إلى أن نتفق في المذاهب ولا في العقائد ولا في الأفكار ولا في البلدان والأعراق حتى نجتمع ويحب بعضنا بعضا. كنا متباينين وكان الحب يجمعنا. أدركت أن الوعي والمعرفة هي ما نحتاجه.

كانت الأيام تشد في كل يوم وثاقاً جديداً يربطنا ببعضنا أكثر، فلما أحكمت الأيام الوثاق واشتدت الصلة، جاءت لتسخر منا بالوداع.

كانت فكرة الوداع الآتية من المستقبل تطرق بابي كل يوم لتفسد علي لحظتي، وكنت في كل مرة أتجاهلها، أريد الاستمتاع بكل لحظة حاضرة، وكان العدم يحسدنا، يزداد كل يوم طرقاً، وكنت أتجاهل صوته، فيزداد طرقاً، ثم كانت اللحظة وكان أن دخل الوداع. لم يعد بعد اليوم عدماً، اليوم هو لحظة حاضرة.

اليوم ننفى من أوطاننا لنصبح أشتاتا متفرقة تعيش التيه، وليس لها حق العودة.

سأفتقد جلسات البهو المسائية، سأعيش مساءات الغد محمّلا بالذكرى وحدها. ستغدو هذه الأيام الجميلة لحظات ماضية، ندخل إليها بـ”كان” و”كان” و”كان”.

لما رأيت القوم قد رحلوا

وراهب الدير بالناقوس مشتغل

 

شبكت عشري على رأسي وقلت له

يا راهب الدير هل مرت بك الإبل

 

فحن لي وبكى بل رق لي ورثى

وقال لي: يا فتى ضاقت بك الحيل

 

إن الخيام التي قد جئت تطلبهم

بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا

كانت أثقل ساعات يومي هي ساعات النوم التي تفصلني عن الحياة. إنني أخشى إن وقفنا على باب الجنة يوم القيامة، أن يؤخر الله دخولنا إليها عدد أيام الملتقى لأننا اقتطعنا من نعيمها في الدنيا.

لكل الذين أخطأنا في حقهم فتجاهلنا أو تعالينا عن الاعتذار إليهم، نعتذر.

لكل الذين أحببناهم، فعقد الحياء ألسنتنا فلم نصارحهم، نحبكم.

إن من بين الوجوه التي ترونها اليوم، من ستحمل هذه الساعات المتبقية آخر العهد بهم، من الوجوه التي بيننا اليوم من سيشهد هذا المكان آخر مكان جمعنا بهم. سنغدو ذكرى تفسد كل لحظة جميلة ستمر بنا وتقول: قد كان من أيامك ولحظاتك أجمل من هذه.

الذكرى التي عرضتها على اللغات فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها قلبي.

ليلة العشاء الأخير، التي ستشهد صلب أرواحنا، سينوح الحمام ويبكي الشعر والغناء.

 

بكيت وهل بكاء القلب يجدي

فراق أحبتي وحنين وجدي

 

فما معنى الحياة إذا افترقنا

وهل يجدي النحيب فلست أدري

 

فلا التذكار يرحمني فأنسى

ولا الأشواق تتركني لنومي

 

سامي البطاطي

٢٩/٨/٢٠١٧

أنشئ موقعاً أو مدونة مجانية على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑